[ 52 ]

ومن خطبة له (عليه السلام)
قد تقدّم مختارها برواية ونذكرها هاهنا برواية أخرى لتغاير الروايتين
[التزهيد في الدنيا]
أَلاَ وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ، وَآذَنَتْ بِانْقِضَاء، وَتَنَكَّرَ مَعْرُوفُها[1]، وَأَدْبَرَتْ حَذَّاءَ[2]، فَهِيَ تَحْفِزُ[3] بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا، وَتَحْدُو[4] بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا، وَقَدْ أَمَرَّ[5] مِنْها مَا كَانَ حُلْواً، وَكَدِرَ[6] مِنْهَا ما كَانَ صَفْواً، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الاِْدَاوَةِ[7]، أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ[8]، لَوْ تَمَزَّزَهَا)الصَّدْيَانُ[9] لَمْ يَنْقَعْ[10]، فَأَزْمِعُوا[11] عِبَادَ اللهِ الرَّحِيلَ عَنْ هذِهِ الدَّارِ المَقْدُورِ[12] عَلَى أَهْلِهَا الزَّوالُ، وَلاَ يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الاَْمَلُ، وَلاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الاَْمَدُ.
 [ثواب الزهاد]
فَوَاللهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ[13]، وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ[14]، وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ[15] مُتَبَتِّلِي[16] الرُّهْبَانِ، وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ، الِْتمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَة عِنْدَهُ، أوغُفْرَانِ سِيِّئَة أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ، وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ، لَكَانَ قَلِيلاً فَيَما أَرْجُو لَكُم مِنْ ثَوَابِهِ، وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ.
[نعم الله]
وَتَاللهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلوبُكُمُ انْمِيَاثاً[17]، وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَة إِلَيْهِ وَرَهْبَة مِنْهُ دَماً، ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا، مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ، مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ [عَنْكُمْ] ـ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ ـ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ، وَهُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلاِْيمَانِ.


[1] تَنَكّرَ مَعْرُوفُها: خفي وجهها.
[2] حَذَّاء: ماضية، سريعة، وفي رواية «جذاء» أي مقطوعة الدّرِّ والخير.
[3] تَحْفِزُهم: تَدفعهم وتسوقهم.
[4] تَحْدُوـ بالواوبعد الدال ـ: تسوقهم بالموت إلى الهلاك.
[5] أمَرّ الشيء: صار مُرّاً.
[6] كدِر كدَراً ـ كفرح فَرَحاً وكدُر ـ بالضم كظرُف ـ كُدُورةً: تعكّرَ وتغير لونه واختلط بما لا يستساغ هو معه.
[7] السَمَلَة ـ محركة ـ: بقية الماء في الحوض، والاداوة: المَطْهَرَةُ، وهي إناء الماء الذي يُتَطَهّرُ به.
[8] المَقْلَة ـ بالفتح ـ: حَصاة يضعها المسافرون في إناء، ثم يصبون الماء فيه ليغمرها، فيتناول كل منهم مقدار ما غمره، يفعلون ذلك إذا قل الماء، وأرادوا قسمته بالسوية.
[9] التمزّزُ: الامتصاص قليلاً قليلاً، والصّدْيَانُ: العطشانُ.
[10] لم يَنْقَعْ: لم يُرْوَ.
[11] أزْمِعُوا الرحيلَ: أي اعزموا عليه، يقال: أزمع الامرَ، ولا يقال أزمع عليه.
[12] المقدور: المكتوب.
[13] الوُلّه العِجَال; الوُلّه: جمع وَالهة وهي كلّ أُنثى فَقَدتْ ولدها، وأصل الوَلَهِ: ذهابُ العقل، والعِجال من النّوق ـ جمع عَجُول ـ: وهي التي فقدت ولدها.
[14] هَدِيلُ الحمام: صوته في بكائه لفقد إلفه.
[15] جَأرْتُمْ: رفعتم أصواتكم; والجُؤار: الصوت المرتفع.
[16] المتبَتّل: المنقطع للعبادة.
[17] انماثت انمياثاً: ذَابَتْ ذَوَباناً.