[ 103 ]

ومن خطبة له (عليه السلام)
[في التزهيد في الدنيا]
[أَيُّهَا النَّاسُ،] انْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ[1] عَنْهَا; فَإِنَّهَا وَاللهِ عَمَّا قَلِيل تُزِيلُ الثَّاوِيَ[2] السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ[3] الاْمِنَ، لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مَنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آت مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. سُرُورُهَا مَشُوبٌ[4]بِالْحُزْنِ، وَجَلَدُ[5] الرِّجَالِ فَيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ[6]، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا.
رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، واعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدٌّنْيَا عَنْ قَلِيل لَمْ يَكُنْ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الاْخِرَةِ عَمَّا قَلَيل لَمْ يَزَلْ، وَكُلُّ مَعْدُود مُنْقَض، وَكُلُّ مُتَوَقَّع آت، وَكُلُّ آت قَرِيبٌ دَان.
منها: [في صفة العالم]
الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَفَى بِالْمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ; وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ لَعَبْدٌ وَكَّلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِرٌ بَغَيْرِ دَلِيل، إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ[7] الدُّنْيَا عَمِلَ، أوْ إِلَى حَرْثِ الاْخِرَةِ كَسِلَ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ[8] سَاِقطٌ عَنْهُ!
منها: [في آخر الزمان]
وَذلِكَ زَمَانٌ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مٌؤْمِن نُوَمَة[9]، إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ، وَإِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى، وَأَعْلاَمُ السُّرَى[10]، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ[11]، وَلاَ الْمَذَايِيعِ[12] الْبُذُرِ[13]، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ، وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ.
أَيُّهَا النَّاسُ، سَيَأْتي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الاِْسْلاَمُ، كَمَا يُكْفَأُ الاِْنَاءُ بِمَا فِيهِ.
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيكُمْ[14]، وَقَدْ قَالِ جَلَّ مِنْ قَائِل: (إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).
أما قوله (عليه السلام): «كلّ مؤمِن نُوَمَة» فإنما أَراد به: الخامل الذكر القليل الشر. والمساييح: جمع مِسياح، وهو: الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم. والمذاييع: جمع مِذْياع، وهو: الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها، ونوّه بها. والبُذُرُ: جمع بَذُور وهو: الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.


[1] الصادفين: المُعْرِضِين.
[2] الثاوي: المقيم.
[3] المُتْرَف ـ بفتح الراء ـ: المتروك يصنع ما يشاء لا يُمْنَع.
[4] مَشُوب: مخلوط.
[5] الجَلَد: الصلابة والقوة.
[6] الوَهْن ـ بسكون الهاء وتحريكها ـ: الضّعْف.
[7] الحَرْث ـ هنا ـ: كل ما يُصْنَع ليُثمر فائدة.
[8] وَنَى فيه: تَرَاخَى فيه.
[9] نُوَمَة ـ بضم ففتح ـ: كثير النوم.
[10] السُّرَى ـ كالهُدَى ـ: السير في الليل.
[11] المَساييح: جمع مِسْيَاح، فَسّره الشريف الرضي بالذي يَسيح بين الناس بالفساد والنمائم.
[12] المَذَايِيع: جمع مِذْياع، فسّره الشريف الرّضي بالذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوّه عنها.
[13] البُذُر: جمع بَذُور، فسّره الشريف الرّضي بالذي يكثر سَفْهُهُ وَيَلْغُو مَنْطِقُهُ.
[14] يبتليكم: يمتحنكم، ليتبين الكاذب والمخلص من المريب، فتكون لله الحجّة على خلقه.