[230 ]

ومن خطبة له (عليه السلام)
[في مقاصد أُخرى]
فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَاد، وَذَخِيرَةُ مَعَاد، وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة[1]، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة[2]، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُوا الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ.
[فضل العمل]
فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ يُرْفَعُ، وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ، وَالدُّعَاءُ يُسْمَعُ، وَالْحَالُ هَادِئَةٌ، وَالاَْقْلامُ جَارِيَةٌ.
وَبَادِرُوا[3] بِالاَْعْمَالِ عُمُراً نَاكسِاً[4]، أَوْ مَرَضاً حَابِساً[5]، أَوْ مَوْتاً خَالِساً[6]، فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، وَمُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، وَمُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ[7]، زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوب، وَقِرْنٌ[8] غَيْرُ مَغْلُوب، وَوَاترٌ[9] غَيْرُ مَطْلُوب، قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ[10]، وَتَكَنَّفَتْكُمْ[11] غَوَائِلُهُ[12]، وَأَقْصَدَتْكُمْ[13] مَعَابِلُهُ[14]، وَعَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ[15]، وَقَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ[16]، فَيُوشِكُ[17] أَنْ تَغْشَاكُمْ[18] دَوَاجِى[19] ظُلَلِهِ[20]، وَاحْتِدَامُ[21] عِلَلِهِ، وَحَنَادِسُ[22] غَمَرَاتِهِ[23]، وَغَوَاشِي سَكَرَاتِهِ، وَأَلِيمُ إِرْهَاقِهِ[24]، وَدُجُوُّ[25] أَطْبَاقِهِ[26]، وَجُشُوبَةُ[27] مَذَاقِهِ; فَكَأَنْ قَدْ أَتْاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ[28]، وَفَرَّقَ نَدِيَّكُمْ[29]، وَعَفَّى آثَارَكُمْ[30]، وَعَطَّلَ دِيَارَكُمْ، وَبَعَثَ وُرَّاثَكُمْ، يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ[31]، بَيْنَ حَمِيم[32] خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ، وَقَرِيب مَحْزُون لَمْ يَمْنَعْ، وَآخَرَ شَامِت لَمْ يَجْزَعْ.
 [فضل الجد]
فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ.
وَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الاُْمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا[33]، وَأصَابُوا غِرَّتَهَا[34]، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا[35]، أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً[36]، وَأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً، لاَ يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلاَ يَحْفِلُونَ[37] مَنْ بَكَاهُمْ، وَلاَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ.
فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ[38]، لاَ يَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلاَ يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، وَلاَ يَرْكُدُ[39] بَلاَؤُهَا.
منها: في صفة الزّهاد
كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بَمَا يُبْصِرُونَ، وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ[40]، تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الاْخِرَةِ[41]، يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ.


[1] الملكة ـ بالتحريك ـ: كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله ويستحوذ عليه.
[2] الهَلَكة ـ بالتحريك ـ: الهلاك.
[3] بادروا: أي اسبقوا.
[4] عمراً ناكساً: أي يقلبكم من الحياة إلى الموت.
[5] الحابس: المانع من العمل.
[6] الخالس: الخاطف.
[7] طِيّاتكم: جمع طِيّة ـ بالكسر ـ: منزل السفر، والمراد أن السفر يباعد رحيل القوم.
[8] القِرْن ـ بالكسر ـ: الكفؤ في الشجاعة.
[9] الواتر: الجاني.
[10] أعلقتكم الحَبَائل: أوقعتكم فيها فاقتنصتكم، وهي جمع حِبالة: المصيدة من الحبال.
[11] تكنفتكم: أحاطتكم.
[12] غوائله: دواهيه ومصائبه.
[13] قصده: رماه بسهم فأصاب مقتله.
[14] المَعَابِلُ ـ جمع مِعْبَلة كمِكْنَسة بكسر الميم ـ وهي: النصل الطويل العريض.
[15] العَدْوة ـ بالفتح ـ: العُدْوان.
[16] النَبْوة ـ بالفتح ـ: أن يخطىء في الضربة فلا يصيب.
[17] يوشك: يقرب.
[18] تَغْشاكم: تحيط بكم.
[19] الدواجي ـ جمع دَاجِية ـ أي: مظلمة.
[20] الظلَل ـ جمع الظُلة ـ أي: السحابة.
[21] الاحتدام: الاشتداد.
[22] الحنادِس ـ جمع حِنْدِس بكسر الحاء والدال ـ: الظلمة الشديدة.
[23] الغَمَرَات: الشدائد.
[24] إرهاقه ـ بالراء ـ أي: إعجاله، من أرهقه إذ أَعجله.
[25] الدُجُوّ: الاظلام.
[26] أطباقه ـ جمع طَبَق ـ ويراد به تكاثف الظلمات طبقاً فوق طبق.
[27] الجُشُوبة: غلظ الطعام وخشونته.
[28] النَجِيّ: القوم يتناجون.
[29] النَدِيّ: الجماعة يجتمعون للمشاورة.
[30] عَفّى الاثار: محاها.
[31] التراث: الميراث.
[32] الحَمِيم: الصديق.
[33] الدِرّة ـ بالكسر ـ: اللبن.
[34] الغِرّة ـ بالكسر ـ: الغفلة.
[35] أخلقوا جِدّتها: جعلوا جديدها قديماً خَلَقاً.
[36] الاجداث: القبور.
[37] يَحْفِلُون: يبالون.
[38] مُلْبِسَة نَزوعٌ: ما ألبست إلاّ نزعت لباسها عمن ألبسته.
[39] يَرْكُدُ: يسكن.
[40] بَادَرَ المحْذُورَ: سبقه فلم يصبه.
[41] تَقَلّب أبدانهم أي: تتقلب، أي أن أبدانهم وهي في الدنيا تتقلب بين أظهر أهل الاخرة، وهو بين ظهرانَيهم أي بينهم حاضراً ظاهراً.